الأمن القومي الإيزيدي إلى أين؟ 1/2
الكاتب : علي سيدو رشو
مقدمة:
من وقائع التاريخ وتجارب الشعوب والمجتمعات الحية في العالم، ثبت بان البقاء على حيويتها مرتهن بالحفاظ على أمنها القومي. حيث أن لكل فرد ولكل عائلة وكذلك لكل مجتمع ومن ثم لكل شعب هنالك أمن قومي، وأن بقاؤه على حيويته، محكوم بالحفاظ عليه. ولكي يكون كلامي واضحاً ولا يفهمه البعض فيما أعني بالقومية من الناحية الفنية. فإنني أعني الأمن القومي وما هي ضروراته؟ وكيف يمكن المحافظة عليه من الانهيار؟ في الوقت الذي يهمني ما قد يقال في هذا الشأن مهما كان حكم المتحدث فيه. فالأمن القومي لأية مجموعة بشرية أو مجتمع أو شعب يحدده عاملان رئيسيان وهما؛ الموقع الجغرافي والعمق التاريخي (#) الذي يبنيه أبناؤه على تلك الرقعة الجغرافية عبر المراحل الزمنية المختلفة من حيث التنمية والبناء وما يجابههما من التحديات والحروب والأزمات، وما يرافقهما من المتغيرات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، والمصالح والصراع ضد خطر محقق.
وهنا، لا بأس من أن نعرج على الفكرة الاساسية التي تقودنا إلى ما نحن ذاهبون إليه. فالأمن القومي هو حصيلة تفاعل هذه العوامل والمداخلات وكيفية الحفاظ على توازنها بحيث تحقق المسار الذي يبقي عليها من التلاشي والذوبان في بعضها ومن ثم ذوبان هذا البعض في الآخر. فلا هو من صنع أشخاص، ولا هو مرتبط بوجود قيادة معينة في ظرف تاريخي معين، بقدر ما يصنعه المجتمع المؤمن ببقائه حياً على مر الزمن من خلال ما يضيف إلى تاريخه من بناء ومجد، على الرغم من أهمية دور الرواد فيه. ولا يمكن لأي شخص أن يناضل من أجل قضية لا يعلم عنها الشي الأساسي. فيمكن أن يدافع عنها بحكم الظروف التي تمليها عليه واقعه أو مصلحته الذاتية، ولكن لا يمكنه أن يناضل من أجلها، مالم يعلم بانه على يقين من أنه على حق. فهناك فرق كبير بين الدفاع عن حالة معينة مرتبطة بمصلحة مرحلية، وبين النضال من أجل قضية لحد الاستشهاد. ولكون الأمن القومي ملك مشاع لكل المعنيين ومن الواجب الدفاع عنه، بل والاستشهاد من أجله، فلا بد من أن تكون ملامحه وأهدافه واضحة للجميع لكي تترسخ فكرة النضال من أجله، ومن ثم الدفاع عن المكاسب التي تم تحقيقها وصون كرامة الذين ضحوا من أجل الحفاظ على تلك المكاسب.
لقد كتب الكثيرين على صفحات الجرائد والصحف الالكترونية وعبر الإعلام المرئي، وارسلوا رسائل مفتوحة إلى المرجعيات الاساسية، منها الدينية ومنها السياسية مستوضحين فيها خطورة التلاعب بمقدرات المجتمعات التي لها الحق مثل غيرها ليس على مبدأ الأقلية والأكثرية، وإنما على اساس الاستحقاق الوطني والانساني. كونها قد دافعت عن كرامة أوطانها كما فعلها الآخرين على طول الخط، وما أكثر تلك الرسائل في زمن النظام السابق من دون أن يعي بخطورة اللعب بمقدرات المجتمعات والشعوب. ولكن وبكل أسف نقول، راحت وتروح جميع تلك الجهود والمحاولات أدراج الرياح، ولم تأخذ أية جهة تلك الرسائل على محمل الجد ولحد الآن، وكأن الزمن يعيد نفسه ولكن بشخصيات تختلف في المكانة والوجوه فقط. بل لم يعد يجدي الحديث فيه نفعاً. وسيأتي اليوم الذي يعض فيه المسئولين الحاليين أصابعهم ندماً على ما فعلوه ويفعلون بحق هذه الشرائح المغبونة في إنسانيتها، كما حصل في زمن ليس ببعيد، ويكونوا قد جنوا على انفسهم قبل غيرهم.
كذلك كتب الكثيرين حول التشاؤم والتفاؤل، وعن الغبن والتهميش ومصادرة الرأي وهضم الحقوق في وضح النهار، ولكن في هذه المرة تحت غطاء الديمقراطية، وما أثقل من أن تضيع الحقوق تحت مسميات لا تستحق أن توصف بهكذا وصف. ولو كان قد تم تجميعها، لكانت كافية لعمل مجلدات من دون أي أكتراث بما جاء به كل ذلك الكم من الأفكار والمطاليب التي تستحق كل التقدير والإعجاب. وبمراجعة بسيطة لتلك النداءات وإجراء مسح متواضع لما جاء فيها من أفكار، وما عبرت عن الغبن الذي لحق بشرائح أساسية ساهمت قبل غيرها في الحفاظ على أمن البلد؛ لم نجد ولو استجابة واحدة من المسئولين تستحق الذكر لكي نفخر بها ونعتبرها مثابة نقتدي بها. فالحقوق الاساسية هي ليست مٍنة من أحد، وكأننا نعيش من جديد في غابة وتحت اسم الديمقراطية تغتصب الحقوق وتنتهك الحرمات ويسرق المستقبل يوما بعد آخر في ظل وضع سياسي واجتماعي محتقن حد (الخياس).
وهنا أريد القول بأن العويل على تعليق كل الاسقام على النظام السابق وتناسي ما تفعله القوى السياسية الحالية لما أوصلت إليه مصير الشعب العراقي ومنها ما يتعلق بمصير ومستقبل، وبالتالي الامن القومي للأقليات ومنها الإيزيدية، لم يجدِ نفعاً وسوف لن يمر الأمر بهذه السهولة، وسيأتي اليوم الذي يندم فيه العابثين بأمن المجتمعات على فعلتهم. فالنعامة تضع رأسها في التراب ضناً منها بأن الاخرين لا يرونها، ولكنها على وهم كبير. فهم على وهم كبير فعلاً، وقد لا يعرفون بأنهم هم أنفسهم يصنعون من المقابل مطالباً عنيداً لحقوقه المسلوبة، فلا يعقل أن يبقى أكثر من نصف مليون انسان له خصوصية معينة وساهم بما مطلوب منه أن يبقى بدون رأي أو عايش على هامش الحياة، أو لا يقبل به سرباً ليطير معه ويغني على الحانه.
التداعي النفسي:
فمن اللافت، أن الوضع وصل بالمجتمع الإيزيدي وكأنه قد فقد الأمل في أن يكون له صوت أو أن يصنع لنفسه تاريخ يليق بما قدمه من تضحيات عبر التاريخ. حيث قدم ما يعجز عنه اللسان في الوصف، ولكن بكل بساطة يقول؛ بأننا ليس لنا حول ولا قوة. في الوقت الذي يمتلك من الامكانيات العظيمة التي قلما يرتقيها مجتمع فيما لو تم التعامل معها بما يجعله يشعر بأنه عليه أن يناضل من أجل قضيته وهو حماية أمنه القومي من التدهور والتلاشي. إذن ماذا حصل لكي يصل به الحال إلى هذا الوضع؟ ومن الذي يقف وراء كل هذا التداعي في الوضع الإيزيدي؟
أرى بأن التاريخ سيصب لعنته على الجميع بدون استثناء (مع الاعتذار لهذا اللفظ تجاه مقام رجال الدين)، بدءً بالأمير والمجلس الروحاني وشيوخ العشائر والمثقفين والمرأة ومنظمات المجتمع المدني والفلاحين والرعاة، لما أوصلوا الحال بالمجتمع إلى الوضع الذي بدءنا فيه نصف أنفسنا بالخضوع والخنوع والاستسلام للقدر. وهي المرحلة التي تصل بالمجتمعات إلى نقطة اللاعودة إلى الحياة عندما تفقد الأمل في قياداتها ومثقفيها وهم يعملون ليل نهار لمن هم في الخندق المخالف لنهضتها. في حين توفرت فرص عظيمة كان من الممكن استثمارها لبناء الشخصية الإيزيدية المستقلة ومن ثم التعامل مع الآخرين من خلال تلك الشخصية. ولكن القدر الأكبر من تلك اللعنة سيلاحق مثقفينا وسياسيينا في المهجر لأنه كان بامكانهم تأسيس قاعدة إنطلاق والانخراط فيما كانت تسمى بالمعارضة. بينما لم يكن بمقدور من هم موجودون على أرض الوطن من القيام باي عمل يمكنه أن يكون اساس لما يبني عليه، ولكن على راي المثل الامريكي Never say late to start.
جغرافية الإيزيديين وعلاقات الجيرة:
بما أننا نتكلم عن الأمن القومي، وأن الجغرافيا هي أحدى أهم أركان هذا الأمن، كما سبق. فإنه من الطبيعي أن يكون لنا كلام مع مَن هم مِن حولنا ولنا معهم مشتركات وعلاقات جيرة على مختلف الأصعدة الثقافية والاقتصادية والاجتماعية وما تم بناؤه منذ فترة ليست بالقليلة. وهنا أعني القبائل العربية التي لنا معها شراكة في الارض والعلاقات الاجتماعية الممتدة عبر مئات السنين، رغم ما تضمنتها من خلافات ومناوشات على حدود الأراضي الزراعية أو بعض الغزوات البسيطة من هذا الطرف أو ذاك، وما خلقتها الدولة من شروخ فيما بيننا في فترة زمنية معينة. ولكن مع كل ذلك ظلت العلاقات الاجتماعية محافظة على الاحترام المتبادل والزيارات وتبادل الرأي فيما يخص الأمن الاجتماعي لكلا الطرفين، وتوجت كل تلك الجهود في الفترة الأخيرة بإعلان الاتفاق على طي صفحة الماضي والبدء من جديد، لكون الجميع بحاجة لبعضها البعض بسبب التخالط الذي فرضه الواقع بعد معاناة الحروب والازمات التي مروا بها جميعاً، وخاصة بعد انتهاء الحرب العراقية-الايرانية ومشاركة جميع فئات الشعب بما فيها الاقليات بتلك الحرب بدون تمييز في الدفاع عن أمن الوطن. ومن الممكن جدا أن يؤيد الإيزيديين السياسية الكردية في المنطقة، وفي نفس الوقت المحافظة على علاقات الجيرة مع العشائر العربية بحكم المواطنة والشراكة في الحدود الجغرافية. ولا يبرر تأييد الإيزيديين للسياسة الكردية بالمطلق أن يصل الأمر لحد العداوة والقطيعة مع الجيران بسبب ما حدث، لأن الذي حصل لا يعني بالضرورة بأن العشائر العربية موافقون عليه؛ بدليل الاستهجان والاستنكار من أعلى المرجعيات العشائرية والدينية والسياسية. أي أنه يجب الإبقاء على العلاقات الاستراتيجية التي يتأثر بها الامن القومي الإيزيدي على المدى البعيد مهما حصل من أطراف تريد لتلك العلاقات أن تتدهور. وحتى في حالة انضمام المناطق الإيزيدية إلى كردستان، بل حتى لو حصل انفصال كردستان عن العراق؛ من الضروري الحفاظ على علاقات الجيرة من ان تمر بشكل سلمي لأننا مقبلون على بناء دولة حضارية مؤسساتية، مستقرة وآمنة (على ذمة الاحزاب السياسية الغير متفقة على أي مستوى). وعلى الإيزيديين أن يفتحوا علاقاتهم على أكثر من جبهة في جميع الاوقات تحسباً للمستقبل غير المضمون. بل عليهم الابقاء على سنجار تابعة للحكومة المركزية باي ثمن لتبقى عمقاً جغرافياً لبقية الإيزيديين في كل من الشيخان وبعشيقة ضماناً للبقية في ظل هذه الأوضاع المرتبكة سياسياً.
نبذة عن الماضي:
في سبعينات القرن الماضي وبالتحديد في فترة بيان آذار للحكم الذاتي، هتف الإيزيديون بكل شجاعة، والتأييد ببراءة للحركة الكردية. وبناءً على ذلك جاء رد فعل الدولة سريعاً بتجميع الإيزيديين في مجمعات قسرية للسيطرة عليهم من هكذا حسابات، وأستباحت الاراضي الزراعية التي تعد من عماد الحياة والاستقرار الإيزيدي، في بعض المناطق وخاصة في قضاء الشيخان، إلى قبائل عربية. ودفع الإيزيديون ما هو معروف للجميع من مآسي في ظروف قاسية وكان الشتاء على الأبواب ولم تنفع كل النداءات بالتوقف عن ذلك. وفي مقابلتنا مع السيد جلال الطالباني في 20/نيسان/2004، ذكرّناه بما جرى وأثنى على تحمّلهم لتلك المأساة (ولكن ....مع الأسف لم يفِ بكلمة مما تعهد لنا به). وقد يقول قائل، ما هذا التناقض في الكلام يا سيد علي، فتارة تقول بأننا يجب أن نحافظ على علاقاتنا ومن ثم تعود وتقول بأنه تم الاستيلاء على الاراضي الزراعية للإيزيديين. نعم هذا صحيح، ولكن سياسية الدولة كانت وراء ذلك، وهي حصلت في كركوك والموصل وبغداد والرمادي والبصرة، ولكنها تحصل الآن أيضاً وتحت غطاء شرعي بحجة أن النظام السابق كان يفعلها. وبما أنها كانت مستهجنة آنذاك؛ فمن الأولى أن لا تحصل الآن، إلا بعد التأكد من صحة الأمر ومن السجلات المدنية فقط. وبالمناسبة فإن أراضي عشيرة القيران في سنجار التي منحت لعشيرة الصديد كانت في زمن عبد السلام عارف، أي أن سياسة الدولة كانت ضد استقرار الإيزيديين منذ زمن بعيد.
فعندما تقرأ تاريخ المجتمع الإيزيدي، تراه مجتمع منشغل في مهنة الزراعة منذ أن خلق، بالإضافة إلى كونه أمينا على طول الخط في الدفاع عن تربة وطنه بكل إخلاص واينما تطلب الامر ذلك. وهو بذلك يستحق من الدولة أن تبني له المشاريع الزراعية وبعض المنشآت التي توفر له الحياة الكريمة والاستقرار الاجتماعي لكي ينخرط في التعليم ودوائر الدولة ويبني حياته المدنية المستقرة بأمان. ولكن بدلاً من ذلك كانت برامج الدولة تصب في جعل هذه الشريحة الاجتماعية تغرق في مشاكل عدم الاستقرار بحيث يهاجر في السنة مرتين وهو بذلك لم يرَ ولم يذق طعم الاستقرار في حياته مما انعكس سلباً على التعليم بشكل أساسي، ناهيك عن التلويح بالتهديد باستبعاده عن المنطقة الاصلية التي بنى عليها بعض من تاريخه. فنجد بأنه ليس للإيزيدي تاريخاً مكتوباً بسبب ذلك الوضع الشاذ الذي خلقته الحكومات المتعاقبة بحيث يكون دوماً على الرحيل بناءً على نزوة موظف قد لا يمت إلى الضمير الانساني بصلة. ولقد حصل هذا الأمر في كافة مناطق الإيزيدية بدون استثناء (بما فيها الدول المجاورة للعراق ايضا)، ولم يكن هذا فقط في زمن النظام السابق، وإنما على مر التاريخ العراقي الحديث ولا زال لحد الآن ولكن بشكل (أكثر حضاري) وأدق خطورة وأكثر (شفافية)، على مستقبل المجتمع الإيزيدي.
ولكي نعود إلى اساس موضوعنا، وهو الأمن القومي الإيزيدي عبر التاريخ، وهو بالطبع ليس محدداً بفترة زمنية معينة، لابد من ذكر ما حصل من تصرف مشين بحقنا من الطرف الآخر وما حصل في فترة الحكم العثماني للعراق، والتي تعد من أسوأ الفترات في تاريخ المجتمع الإيزيدي وأكثرها إجحافاً. ولا ننسَ بأن غالبية حملات الإبادة التي جرت على الإيزيديين كانت في تلك الفترة، ولكن يجب أن لا ننسَ أيضاً بأن قيادات ورجال الدين من الاكراد كانت لها اليد الطولى في تلك الحملات لما كانت تصدر من فتاوى دينية تلهب الحماس لدى المتطرفين وتوفر لهم الأرضية الخصبة وتفتح شهيتهم لصب جام غضبهم على هذه الفئة المغلوبة على أمرها والشواهد على ذلك أكثر من أن تحصى ولا حاجة لذكرها، وهكذا الفرس أيضاً.
تتمة المقالة الى الاسفل