]size=18]سلسلة تثقيف الشارع الايزيدي الحلقة -2- جميـــل الســومري
زيارة المقابر[/size]
لا شك ان التراث الانساني ملىء بالافكار والمعتقدات التي تتعلق بالحياة بعد الموت والجسد والروح والبعث والنشور والتناسخ والثواب والعقاب والخلود والفناء , ويتجلى ذلك في احسن صوره في الحضارات الشهيرة التي ظهرت على ارض المعمورة من سومرية وبابلية واغريقية وفرعونية وغيرها, حيث اهتمت بموتاها اكثر من اهتمامها بالاحياء في احايين كثيرة وما الاهرامات المصرية وتحنيط الجثث الا دليل واضح على ما ذهبنا اليه .
حيث اعتقد قدماء المصريين بوجود الثواب والعقاب (قريبة من فكرة الجنة والنار في ايامنا هذه ) وان الميت يحاكم في حضرة الاله ( اوسيرس ) بحضور اثنين واربعين قاضيا يقررون فيما اذا كان قد استوفى ما عليه فعله في الحياة الدنيا فانه يرجع ويحيا من جديد في جسد انسان اما اذا كانت اعماله سيئة فيدخل في جسد حيوان قذر او يلقى في النار لكي يتطهر ويعود مرة اخرى الى الارض( وهذه قريبة الشبه بفكرة تناسخ الارواح لدى الايزيدية ) .
اما النصوص السومرية والبابلية التي تتحدث عن الموت والبعث والحياة الاخرى فتؤكد على وجود تشابه قريب جدا بين الاثنين حيث ينكران البعث والقيامة ووجود حياة اخرى بعد الموت وكانوا يتخيلون الاخرة بانه ظلام دامس ويسمونه بالعالم الاخر بالرغم من وجود بعض الارهاصات والتلميحات التي اعتقد بانها احدى الدلائل التي تؤكد ايمان السومرين والبابليين بحياة اخرى , حيث وجد اثناء الحفريات انابيب خزفية تمتد مسافة اكثر من اربعة عشر مترا عمقا نحو جوف الارض اعتقد العلماء بانهم استخدموها لتقديم القرابين الى الالهة ومن المحتمل جدا بانهم كانوا يستخدمون تلك لتقديم الطعام والشراب الى موتاهم اعتقادا منهم بانهم ذهبوا الى العالم السفلي كما كان البابليون يسمونه .
واعتقد اليهود القدامى بفكرة قريبة من افكار السومرين والبابليين فيما يتعلق بالبعث والحياة الاخرى وانكروا وجوده بعد الموت وسموا الحياة الاخرى الظلام او ظل الموت كما سميت ايضا بوادي ظل الموت . ثم ظهرت جماعة الصدوقيين لاحقا وانكروا كل ما هو خارج مدونات اسفار موسى الخمسة والتي لاتشير الى القيامة او البعث او وجود حياة اخرى بعد الموت ثم نشأت فكرة العقاب والثواب (وليس البعث او الحياة الاخرى ) لاحقا لدى اليهود وقالت بتعدد انواع الثواب العقاب وفق درجات مختلفة من الحسنات و الذنوب الا ان ظهرت فرقة اخرى سميت الفريسيين كانوا يمارسون شعائرهم الدينية منعزلين حيث كانوا على خلاف مع اليهود الاخرين واعتقدوا بالقيامة والبعث والملائكة والحياة الاخرى وعلمها المسيح من بعد ذلك وعملت بها الكنيسة انفا.
اما الايزيديون فآمنوا وما زالوا بفكرة التناسخ وخلود الروح وفناء الجسد والبعث من جديد واحياءه مرة اخرى طبقا لاعماله في الحياة الدنيا التي تحدد شقاءه ووبؤسه وعقابه وثوابه وجنته وجحيمه وتعاسته وعذابه وسعادته وابتهاجه فأسسوا لانفسهم فلسفتهم الخاصة ورؤياهم الفريدة تجاه كل ما يتعلق بالموت والحياة الاخرى .
نود هنا التطرق الى صلب الموضوع الذي يمس المجتمع الايزيدي وكيانه مساسا مباشرا ويؤثر فيه وعلى احواله الاجتماعية والاقتصادية من وجهة نظرنا الخاصة وبالاخص فيما يتعلق بشنكال لكوني اقرب اليه من المناطق الاخرى التي يقطنها الايزيدية وفارق العادات والتقاليد باختلاف المناطق الجغرافية له تأثيره وهذا امر طبيعي .
تقوم العوائل الايزيدية بزيارة المقابر في اغلبية المناسبات الدينية ان لم نقل جميعها وما اكثر تلك المناسبات , وكانت الزيارات محددة سابقا على عدد قليل من العوائل وخاصة تلك التي فقدت احد اعزاءها\ احدى عزيزاتها في وقت قريب وكان العدد محصور جدا ومراسيم الزيارة بسيطة لاتتعدى بضع انفار والقليل من المواد الغذائية من مأكل ومشرب , ولكن حدثت طفرة كمية ونوعية اثناء الحرب العراقية الايرانية واستقبال المنطقة قوافل الشهداء الواحدة تلك الاخرى مما حدا بالمجتمع الايزيدي الى ترك جميع مباهج الاحتفال والابتهاج والفرح وشلت حفلات الزواج والطهور وباتت تجري بشكل شبه سري وهادىء بعيدا عن مظاهر الصخب والضجيج والاهازيج المعروفة في مثل هكذا مناسبات . وفي المقابل ازداد الاهتمام بمراسيم دفن الشهداء وزيارة المقابر وابتكرت وسائل وطرق واساليب جديدة لم تكن موجودة سابقا في زيارة القبور والانفاق والتبذير ,مظاهر جديدة ودخيلة على المجتمع الايزيدي وربما كانت سلبية ومتخلفة ايضا لتبين مدى محبتها ومعزتها للفقيد الراحل وتطورت الحالة الى ان اصبحت احدى المباهج التي تتنافس فيها العوائل وتفتخر امام الاخرين عن حجم الانفاق التي صرفته في العيد الفلاني اثناء زيارة المقابر .
معظم العوائل الايزيدية تزور المقابر في شنكال ما لايقل عن اربع مرات في السنة كحد ادنى , في عيد ( مربعانية الشتاء ومربعانية الصيف وعيد صيام ايزي وعيد رأس السنة الايزيدية ) . وينفق المجتمع ملايين بل مليارات الدنانير في العام الواحد اثناء تلك الزيارات والتي تدخل في خانة التبذير وعدم احترام الزاد والغذاء والنعمة حتى , حيث وجدت بام عيني في عيد مربعانية الشتاء في احدى المزارات وكانت الامطار تنهمر و العديد من العوائل تقدم الرز المطبوخ والبرغل واشكال اللحم المطبوخ والمقلي والمشوي وانواع الكبب والدولمة ........الخ في الساعة السادسة صباحا نعم عند بزوغ الفجر الى السواق والمارة (بربكم من يشتهي حتى الشهد و الكافيارطعام الملوك في مثل هذا الوقت ) , في الوقت الذي كانت هناك عدد لاتحصى من العوامل التي نامت على حل بطانة معدتها تحدق في الباب وتنتظر على امل ان تلمح شبح فتى او فتاة تحمل قدرا او ماعونا من الطعام لاطفالها الجياع .
علينا ان نتحلى بالمنطق اولا وبالروح الرياضية العالية عند طرح السلبيات التي تكتنف مجتمعنا وتزداد طرديا مع الزمن مع كل الاسف على مجتمع عريق تمتد جذوره في اعماق التاريخ الانساني , اسفي على التخلف والجهل السائد والسير عكس تيار التطور والتقدم واللحاق بركاب الامم المتحضرة , اسفي على مجتمعي الذي يمجد المتخلف ويشجع السلبي ويرقص على انغام طبول كل من هب ودب ويدمر ويمحي تلك العادات والتقاليد الطيبة والجميلة التي غرسها اجدادنا وتعبوا عليها وافدوا بدماءهم وارواحهم في سبيلها , اسفي على مجتمع لا يعلم كيف يدبر امره كيف يساعد جياعه ويوقض النائمين في سبات عميق ليكونوا عناصر فاعلة تنتج بدل ان تستهلك , اسفي على مجتمع يقلد الاخرين حتى في مشيتهم وطريقة تناولهم الطعام وجلوسهم وقعودهم وكلامهم وحديثهم مثلهم مثل القرقوز التي تحرك على المسرح , لا ارادة ولا طموح لا اهداف ولا غايات لا اسلوب ولا استراتيجية ولا تكتيك .
قد يتبادر الى ذهن البعض من القراء بانني اعادي عادات وتقاليد الايزيدية , ابدا وانني من اكثر المتشددين في الحفاظ على العادات والتقاليد الحلوة والجميلة والتراث الايجابي الخير والنبيل وما اكثره والاضافة اليه وتنشيطه وترميمه وانماءه واحياءه بما يتناسب وروح العصر وانني اعتز به اشد الاعتزاز وافتخر بانتمائي الى هذا المجتمع الوجداني العاطفي المسالم المسامح ( المجتمع الايزيدي ) .
لكنني بالمقابل ضد كل المظاهر السلبية التي تمارس بدعوى التقاليد والعادات واحارب جميع الاشكال التي تزيد المجتمع المتخلف تخلفا وتزيد من جهل المجتمع وتنهك كاهل المجتمع اقتصاديا , وما احوجنا اليوم قبل غد الى احياء وبناء مشاريع في مناطقنا التي تفتقر الى ابسط الخدمات الاساسية .
اتعلم كم ينفق الايزيدية كل عام على مظاهر دخيلة عن مجتمعنا اوجدتها ظروف خارجية ؟
كم من العوائل التي يتسلط على رقابها الفقر المدقع والتي لا تستطيع تأمين لقمة العيش لاطفالها موجودة في مجتمعنا ؟
اليس الاجدر بنا ان نحترم الحي قبل مماته وان نديم الاحياء ونهتم بهم اكثر من اهتمامنا للموتى ؟
كم من شاب وشيخ وامراة وفتاة وطفل مات نتيجة الفقر والجوع والمرض ؟ والذي لما كان لو توفرت لديه مقدار المال الذي ننفقه بعد مماته .ألم يكن جديرا بذلك المال ؟
أ نحتكم الى المنطق والحكمة في طرح قضايانا الجوهرية التي تلف مجتمعنا ؟ ام نسير على خطى الذين قبلنا مغمضين دونما وعي حتى لو كانوا مخطئين وسلبيين ؟
اخواتي اخوتي من بني جلدتي ارجو ان نتحرك بشكل عملي ومدروس تجاه جميع القضايا والظواهر السلبية الكثيرة في مجتمعنا وان نبذل قصارى جهدنا بالفعل وليس بالكلام فقط محاولين كبت جماح تلك السلبية منها واحياء وبعث الروح في الايجابية منها وان ننزل الى ارض الواقع ونناقش الاساس والبنى التحتية الاجتماعية , ويقع على عاتق المثقف اعباء جمة في تثقيف عائلته اولا ومن ثم الاخرين وعليه ان يكون كبش الفداء ويتحلى بالشجاعة والصبر فهو المناضل الحقيقي الذي يتأمل منه المجتمع ان يقودهم الى النبع الصافي وبر الامان .